في الترمذي :" عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه، يريد ان يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى:" لا تحرك به لسانك لتعجل به" قال : فكان يحرك به شفتيه ". "وحرك سفيان شفتيه. قال ابو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس : انا احركهما كما كان رسول صلى الله عليه وسلم يحركهما، فقال سعيد: انا احركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله : " لا تحرك به لسانك لتعجل به""
" إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ "
أي جمعه في صدرك ثم تقرؤه.
" فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ "
فاستمع له وانصت. ثم ان علينا ان نقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اتاه جبريل عليهما السلام استمع، واذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقره، خرجه البخاري ايضاً. ونظير هذه الآية قوله تعالى:" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" [ طه:114] وقد تقدم. وقال عامر الشعبي: انما كان يعجل بذكره اذا نزل عليه من حبه له، وحلاوته في لسانه، فنهي عن ذلك حتى يجتمع لأن بعضه مرتبط ببعض. وقيل : كان عليه السلام اذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة ان ينساه، فنزلت" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " [ طه:114] ونزل: " سنقرئك فلا تنسى" [ الأعلى:6] ونزل: " لا تحرك به لسانك" قاله ابن عباس : ((وقرآنه)) أي وقراءته عليك. والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران. وقال قتادة: ((فاتبع قرآنه)) أي فاتبع شرائعه واحكامه.
" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "
أي بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا، فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه. فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو يحيى التيمي حدثنا موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره فأنزل الله تعالى "لا تحرك به لسانك لتعجل به" وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد إن هذه الآية نزلت في ذلك وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس "لا تحرك به لسانك لتعجل به" قال كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه فقال الله تعالى "لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه" أن نجمعه لك "وقرآنه" أن نقرئك فلا تنسى وقال ابن عباس وعطية العوفي "ثم إن علينا بيانه" تبيين حلاله وحرامه وكذا قال قتادة.
والآيات تتحدث صراحة عن أن حفظ القرآن وجمعه ليس من مهام النبي أو أي بشر ، ولكن الله هو من يقوم بحفظ القرآن وجمعه وقرآته وتبيانه للناس.
قوله تعالى: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ " يعني القرآن. " وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " من أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة وثابت البناني: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلاً أو تنقص منه حقاً، فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظاً، وقال في غيره: " بما استحفظوا " ( المائدة:44)، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا. أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام أبو القاسم عبد الله عن أبيه الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف بن معزوز الكومي التلمساني قال: قريء على الشيخة العالمة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري وذلك بمنزلها بدار السلام في آخر جمادي الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة، قيل لها: أخبركم الشيخ الأجل العامل نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن محمد الزينبي قراءة عليه وأنت تسمعين سنة تسعين وأربعمائة، أخبرنا علي بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المعروفب بالطوماري حدثنا الحسين بن فهم قال: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كان للمأمون - وهو أمير إذ ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس دعاء المأمون فقال له: إسرائيلي قال نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلماً، قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.
قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قال قلت: في أي موضع قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: " بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ " ( المائدة: 44)، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع.
وقيل: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أي لمحمد صلى الله عليه وسلم من أن يتقول علينا أو نتقول عليه. أو (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) من أن يكاد أو يقتل. نظيره " وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" ( المائدة: 67). و ( نحن) يجوز أن يكون موضعه رفعاً بالابتداء و ( نزلنا) الخبر. والجملة خبر ( إن). ويجوز أن يكون ( نحن) تأكيداً لاسم ( إن) في موضع نصب، ولا تكون فاصلة لأن الذي بعدها ليس بمعرفة وإنما هو جملة، والجمل تكون نعوتاً للنكرات فحكمها حكم النكرات.
وهكذا أخوة الإسلام، القرآن يخبرنا بأن حفظه وجمعه وقرآنه وتبيانه هو من عند الله، وأن الله عز يحفظ القرآن من أي تشويه أو تحريف، أو زيادة أو نقصان.
وفي ذلك إطمئنان لكل مسلم على أن المصحف الشريف هو قرآن كاملاً تاماً حقاً
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:35
ثانياً
حفظ القرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
يتجاهل بعض المستشرقين تماماً حقيقة واضحة وهي "قداسة القرآن" بالنسبة للمسلمين، فالقرآن بالنسبة للمسلمين هو كتاباً إلهياً مقدساً، أنهم يتعجبون من وصوله إلينا بهذه الطريقة وبهذه الكيفية، ويتعمدون تزوير التاريخ ليس لإثبات حقائق ولكن لتشكيك المسلمون في كتابهم، ويقولون كيف أن كتاباً كهذا لم يتم تعديل حرفاً واحداً به طوال هذه المدة، والنقطة الأساسية التي يتحدثون عنها هي جمع القرآن.
فكل الدلائل تشير إلى أن المصحف العثماني، هو بذاته ما يطبع في أيامنا هذه، بنفس الرسم العثماني، مضافاً إليه التشكيل والتنقيط، وأحياناً إيضاحات تجويدية، هو ما تم إضافته كما سنوضح فيما بعد، إذن فما سيفضلون الإتجاه إليه هو مرحلة ما قبل المصحف العثماني.
كان القرآن الكريم ومازال أهم أساس في الإسلام وقد كانت تلاوة ما تيسر منه جزءاً جوهرياً من الصلوات اليومية عامة أو خاصة، وكان القيام بهذه التلاوة فرضاً وسنة يجزي من يؤديهما جزاء دينياً صالحاً. وذلك كان جماع الرأي في السنة الأولى، وهو ما يستفاد كذلك من الوحي نفسه. لذلك وعت القرآن ذاكرة كثرة من المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعاً. وكان مبلغ ما يستطيع أحدهم تلاوته بعض المميزات الجوهرية في العهد الأول للإسلام.
لماذا حفظ الصحابة القرآن ؟
جاء في صفة هذه الأمة عن وهب بن منبه:"أمة أناجيلهم في صدورهم"، بخلاف أهل الكتاب، فقد كانوا يقرءون كتبِهم نظرًا، لا عن ظهر قلب.
وقد تظاهرت الأدلة على فضل حفظ القرآن الكريم، وفضل حفظته على غيرهم من الْمسلمين، فمن ذلك:
1.علوُّ منزلة حَافظ القرآن، الْماهر به، فعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَقْرأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ، فَلَهُ أَجْرَانِ. وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ، فَيَقْرَأُ، وَيَصْعَدُ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً، حَتَّى يَقْرَأَ آخِرَ شَيْءٍ مَعَهُ.
2.وما ورد من أن حافظ القرآن لا تحرقه النار، فعن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ جُعِلَ فِي إِهَابٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ.
قال ابن الأثير: وقيل الْمعنى: مَن علَّمهُ اللهُ القرآنَ لم تحرقْهُ نارُ الآخرةِ، فجُعِلَ جسمُ حافظ القرآن كالإهاب له.. (والإهاب في قاموس المحيط هو الجلد للكتاب).
3.ومنه تشفيعه في أهله، فعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَفِظَهُ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، وَشَفَّعَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ.
4.ومن ذلك أيضًا أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ. 5.وكذلك إكرام والدي حافظ القرآن، وإعلاء منزلتهما، فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيامَةِ، ضَوْءهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا - لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟
6.ومن ذلك أيضًا أن حملة القرآن مقدمون على أهل الجنة، قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وعن طاوس أنه سأل ابن عباس - رضي الله عنهما: ما معنى قول الناس: أهل القرآن عرفاء أهل الجنة ؟ فقال: رؤساء أهل الجنة.
وقد يسرت عادات العرب هذا العمل، فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم. ولما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد أعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم على صفحات قلوبهم، والتاريخ يروي لنا كيف كان العرب يحفظون آلاف الأبيات من الشعر بسرعة فائقة، ولديهم القدرة الفائقة على إستعادتها بذات كلامها وإعرابها.
بذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو، ثم تناولت القرآن بكل ما أدت إليه يقظة الروح إذ ذاك من حرص وإقبال. ولقد بلغ بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قوة الذاكرة ودقتها ومن التعلق بحفظ القرآن وإستذكاره حداً إستطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عرف منه إلى يوم كانوا يتلونه.
هذه الذاكرة، وهذه الرغبة العارمة في حفظ المسلمين أنفسهم بكتاب الله، جعلت المسلمين في أي زمان لديهم ذات الرغبة في حفظ الكتاب، حتى أن في يومنا هذا يوجد حوالي 9 مليون قارئاً للقرآن يحفظون آياته ويستطيعون تلاوته عن ظهر قلب،وهؤلاء الحفظة إذا تتبعنا طريقة حفظهم، نجدهم يتجهون لحفظة القرآن وليس للمصحف الشريف، وذلك معناه أن كل حافظ للقرآن الكريم يحفظه من حافظ له، وهكذا حتى نصل إلى حفظة القرآن الأوائل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى آخر أن حفظ القرآن يورث من حافظ لحفظة، ولو أن تعديلاً طرأ في الكتاب الجامع للقرآن (المصحف الشريف) لكان ظهر عند قرآة حفظة القرآن لقرآنهم المختلف !!
أما البقية الباقية من المسلمين من غير حفظة القرآن فإنهم يحفظون أجزاءاً كبيرة تتراوح من القرآن كاملاً إلى أدنى جزء من القرآن. ومع إعتبار أن نسبة 18% فقط من عدد المسلمين في العالم من العرب (أي حوالي 270 مليون عربي) وهؤلاء قدرتهم على حفظ القرآن أعلى بكثير من قدرة غير العرب فإن عدد حفظة القرآن الكريم بالنسبة لمتقني اللغة العربية يصبح 3.34%، أي من كل ثلاثمائة فرد يتقن اللغة العربية يوجد عشرة أفراد يحفظون كتاب الله (كاملاً) عن ظهر قلب، وباقي العدد يحفظون ما تيسر منه. وذلك في أيامنا هذه، فما بالك بأيام النبوة الأولى، وآيات الكتاب تتوالي في النزول، ويحفظونها آية بآية، بل ويتفاخرون بحفظهم لكتاب الله، وذلك يؤكد لنا تأكيداً كبيراً بإن عدد حفظة القرآن في تلك الأيام كان كبيراً جداً.
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:36
هل حفظ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ؟
كان العرب قبل الإسلام أمَّةً أمِّـيَّةً، لا تقرأ ولا تكتب، والأمي (هو الذي لا يكتب ولا يقرأ، أو منسوب إلى الأم، كأنه باقٍ على حالته التي وُلد عليها، أو على أنه أشبه بأمه منه بأبيه، إذ إن نساء العرب ما كن يعرفن القراءة والكتابة، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأمي إما على أحد الْمعاني السابقة، أو على أنه منسوب إلى أمة العرب، وهي الأمة الأمية، وكانوا في الجاهلية لا يعرفون القراءة والكتابة إلا النادر، ولذلك كان أهل الكتاب يصفونهم بالأميين، أو على أنه منسوب إلى أم القرى - شرفها الله. القاموس الْمحيط ص 1392، والجامع لأحكام القرآن) وهو إنما يعتمد في حفظ ما يحتاج إلى حفظه على ذاكرته، فليس ثَمَّ كتابٌ يحفظ عليه ما يريد حفظه، وقد كان العرب يحفظون في صدورهم ما يحتاجون إلى حفظه من الأنساب والحقوق والأشعار والخطب.
ولما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة كانت إحدى آيات ودلائل نبوته أنه أميٌّ؛ حتى لا يتطرق إلى أوهام من يدعوهم أن دعوته مبنية على علمٍ حصَّله من مُعَلِّمٍ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (وَمَا كُنْتَ تَـتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِنِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمبْطِلُونَ ).
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم أُمِّـيًّا، فلا غروَ كان كذلك يعتمد على ذاكرته في الحفظ، فلما شرَّفه الله بالرسالة، وكان القرآن الكريم آيته التي تحدى بِها الناس كافة والعرب خاصةً - كان شديد الحرص على حفظ القرآن حال إنزاله - وهو من أشد الأحوال عليه، حتى لقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني مشقة عظيمة لتَعَجُّلِهِ حفظَ القرآن الكريم، مخافة أن ينساه، حتى أنزل الله عليه ما يثبت به فؤاده، ويُطَمْئِنُهُ أن القرآن لن يَتَفلَّتَ منهُ:
فطمأنه الله تعالى أن حفظ وبيان القرآن إليه ، وأمره أن ينصت إلى الوحي، كما قال : (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ).
قال الحافظ ابن حجر: ولما كان من أصل الدين أن الْمبادرة إلى أفعال الخير مطلوبةٌ، فنُـبِّه على أنه قد يَعترضُ على هذا الْمطلوب ما هو أجَلُّ منهُ، وهو الإصغاء إلى الوحي، وتَفَهُّمُ ما يَرِدُ منه، والتشاغل بالحفظ قد يَصُدُّ عن ذلك، فأُمِرَ ألاَّ يُبَادر إلى التحفظ ؛ لأن تحفيظه مضمونٌ على ربه.
عن سعيد بن جبيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فِي قَوْلِهِ تعالى: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ )قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )قَالَ: جَمْعُـهُ لَكَ فِي صَـدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ، (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ )قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ.
فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَرَأَهُ.
وظاهر السياق يحتمل أن يكون إنما كان يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ للمشقة التي كان يجدها صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي، فكان يتعجل بأخذه لتزول الْمشقة سريعًا.
وفي روايةٍ أخرى عند البخاري: كان يُحَرِّكُ به لسانه مخافة أن ينفلت منه.
فهذه الرواية صريحةٌ في أن سبب الْمبادرة هو خشية النسيان، أي كان يحرك لسانه لئلا يفلت منه حرف أو تضيع منه لفظة.
وعن الشَّعْبِيِّ في هذه الآية: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ )قال: كان إذا نزل عليه الوحي عَجِلَ يتكلم به من حُبِّه إيَّاه.
وهذه الرواية تدل على أن سبب الْمبادرة هو حب الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن، وحب الشيء يستلزم الخوف عليه، والخوف من ذهابه عنه.
قال الحافظ ابن حجر: ولا بُعْدَ في تعَدُّدِ السببِ.
ويُمكن أن نستخلص مِمَّا سبق بواعث حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، وهي:
1 - أنه الْمبلِّغ عن ربه تعالى، والحفظ ضروري للبلاغ على الوجه الأكمل الذي أمره الله به. 2 - حب النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم. 3 - خوف نسيان القرآن. 4 - التوثُّق للقرآن، والتحري في ضبط ألفاظه وحفظ كلماته.
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:36
أونسي النبي صلى الله عليه وسلم أو أسقط عمداً شيئاً القرآن ؟
كعادة المستشرقين يحاولون دائماً تحريف الكلم عن مواضعه، وكلما أطفأت أكذوبة بحجة، جاءوك بأكذوبة آخرى، لأنهم لا يبغون إلا الفتنة، فقد شكَّك بعضهم في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن الكريم وجمعه، وهو حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بدعوى جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم ، واستدلوا على ذلك بدليلين: الأول: قوله تعالى في سورة الأعلى الآية 6 : (سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ ).
فزعموا أن الآيات تدل - بطريق الاستثناء - على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أسقط عمدًا أو أُنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها، وتدل أيضًا على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني: ما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِي الْمسْجِدِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَة كَذَا وَكَذَا. وفي رواية: أُنْسِيتُها. فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عمدًا بعض آيات القرآن، أو أُنسِيَها.
وعلى الرغم من سخف دعواهم، وعدم إستنادها إلى فهم صحيح لمعاني الآيات والأحاديث، ألا أنني كما ذكرت سابقاً أخاطب الإنسان المسلم، الذي يسمع لتلك الأكاذيب، لأبين له صحة موقف الإسلام، فالإسلام ليس لديه ما يخفيه، أو يخجل منه، دين بسيط، تاريخ واضح، قرآن كريم نزل من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فيجاب على أكذوبتهم الأولى عن الآية الكريمة والتي إستدلوا منها على جواز نسيان النبي صلى الله عليه وسلم بعض القرآن:
أولاً: بأن قوله : ( سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ) وعدٌ كريمٌ بعدم نسيان ما يقرؤه من القرآن، إذ إن (لا) في الآية نافية، وليست ناهية، بدليل إشباع السين، فأخبر الله فيها بأنه لا ينسى ما أقرأه إياه.
وقيل (لا) ناهيةٌ، وإنما وقع الإشباع في السين لتناسب رءوس الآي، والقول الأول أكثر.
قال القرطبي بعد أن ذكر القولين: والأول هو الْمختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتًا معلومًا، وأيضًا فإن الياء مثبتة في جميع الْمصاحف، وعليها القراء.
ومعنى الآية على هذا: سنعلمك القرآن، فلا تنساه أو (لن تنسى القرآن لأننا سنعلمه لك)، فهي تدل على عكس ما أرادوا الاستدلال بِها عليه.
ثانيًا: إن الاستثناء في الآية معلق على مشيئة الله إياه، ولم تقع الْمشيئة، بدليل ما مر من قوله تعالىإِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )، ولأن عدم حصول الْمعلق عليه يستلزم عدم حصول الْمعلق، ويستحيل أن تتعلق مشيئة الله بعدم بلوغ رسالته.
ثالثًا: الاستثناء في الآية لا يدل على ما زعموا من أنه يدل على إمكان أن ينسى صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن، وفي الْمراد بِهذا الاستثناء قولان:
القول الأول: أن الاستثناء صوريٌّ لا حقيقيٌّ، فهو للتبرك، وليس هناك شيءٌ استُثني. قال الفراء: لم يشأ أن ينسى شيئًا، وهو كقوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ولا يشاء، وأنت قائل في الكلام: لأعطينَّك كل ما سألتَ إلا ما شئتُ، وإلا أن أشاءَ أن أمنعك، والنية ألا تمنعه، وعلى هذا مجاري الأيمان، يُستثنى فيها، ونية الحالف التمام.
وقيل إن الحكمة في هذا الاستثناء الصوري أن يعلم العباد أن عدم نسيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن هو محض فضل الله وإحسانه، ولو شاء تعالى أن ينسيه لأنساه، وفي ذلك إشعارٌ للنبي صلى الله عليه وسلم أنه دائمًا مغمور بنعمة الله وعنايته، وإشعار للأمة بأن نبيهم مع ما خُصَّ به من العطايا والخصائص لم يخرج عن دائرة العبودية، فلا يُفْتَنُون به كما فُتِنَ النصارى بالْمسيح صلى الله عليه وسلم .
القول الثاني: أن الاستثناء حقيقي، وأن الْمراد به منسوخ التلاوة فيكون الْمعنى أن الله تعالى وعد بأن لا ينسى نبيه صلى الله عليه وسلم ما يقرؤه، إلا ما شاء - سبحانه - أن ينسيه إياه بأن نسخ تلاوته لحكمة، أو على أن الْمراد به الترك، أو ما يعرض للإنسان بحكم الجبلة البشرية، أو لأجل تعليم الناس وتبيين السنة لهم.
عن الحسن وقتادة (إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ): أي قضى أن تُرفع تلاوته.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما: إلا ما أراد الله أن ينسيكه لتَسُنَّ.
وقال الطبري: وقال آخرون: النسيان في هذا الْموضع: الترك، قالوا: ومعنى الكلام: سنقرئك يا محمد، فلا تترك العمل بشيء منه، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به مِمَّا ننسخه.
وعلى هذين القولين فلا تعلق لأصحاب تلك الشبهة بِهذه الآيات، إذ لا يفهم منها أن النبي قد نسي حرفًا واحدًا مِمَّا أمر بتبليغه.
ثم نتحدث عن الحديث الشريف وعن زعمهم حوله:
أولا: أن الحديث الذي أوردوه لا ينهض حجةً لهم فيما زعموا من الشكّ في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه، إذ إن الآيات التي أنسيها النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكرها كانت مكتوبة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه، والذين منهم هذا الذي ذكَّرَه، وإنما غاية ما فيه الدلالة على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالآيات، وكان قد أُنسيها، أو أسقطها نسيانًا، وليس في الخبر إشارة إلى أن هذه الآيات لم تكن مِمَّا كتبه كتَّاب الوحي، ولا ما يدل على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا نسوها جميعًا، حتى يخاف عليها الضياع.
ثانيًا: أن روايات الحديث لا تفيد أن هذه الآيات التي سمعها الرسول من أحد أصحابه كانت قد انمحت من ذهنه الشريف جملةً، بل غاية ما تفيده أنَّها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة صاحبه، وليس غيبة الشيء عن الذهن كمحوه منه، فالنسيان هنا بسبب اشتغال الذهن بغيره، أما النسيان التام فهو مستحيل على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لإخلاله بوظيفة الرسالة والتبليغ.
قال الباقلاني وإن أردت أنه ينسى القدرَ الذي ينساه العالْم الحافظُ بالقرآن، الذي لا يُنسَب صاحبه إلى بلادةٍ، فإن ذلك جائز بعد أدائه وبلاغه، والذي يدل على جوازه أنه غير مفسدٍ له، ولا قادح في آياته، ولا مفسد لكمال صفاته، ولا مسقط لقدره، ولا منزل له عنه، ولا معرضٍ بتهمته.
ثالثًا: أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( أسقطتها ) مفسرةٌ بقوله في الرواية الأخرى: ( أُنْسِيتُها )، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم أسقطها نسيانًا لا عمدًا، فلا محل لما أوردوه من أنه قد يكون أسقط عمدًا بعض آيات القرآن.
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم : "كنت أُنْسِيتُها" دليل على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم فيما قد بلَّغه إلى الأمة.
وترد هنا مسألة وقوع النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي الْمسألة الآتية.
ثم نتحدث أخيراً عن وقوع النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكون على قسمين:
الأول: وقوع النسيان منه صلى الله عليه وسلم فيما ليس طريقه البلاغ. فهذا جائز مطلقًا لما جُبل عليه صلى الله عليه وسلم من الطبيعة البشرية.
والثاني: وقوع النسيان منه صلى الله عليه وسلم فيما طريقه البلاغ. وهذا جائز بشرطين:
الشرط الأول: أن يقع منه النسيان بعد ما يقع منه تبليغه، وأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلاً. قال النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم : "كنت أُنْسِيتُها": دليل على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم فيما قد بلَّغه إلى الأمة.
الشرط الثاني: أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره: إما بنفسه، وإما بغيره. وقال القاضي عياضٌ - رحمه الله: جمهور الْمحققين على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم ابتداءً فيما ليس طريقه البلاغ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم، ولكن من جوز قال: لا يُقَرُّ عليه، بل لا بد أن يتذكره أو يُذَكَّره.
ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم لشيء مِمَّا طريقه البلاغ يكون على قسمين أيضًا:
قال الإسماعيلي: النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من القرآن يكون على قسمين:
أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قربٍ، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود في السهو: إنَّما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون.
وهذا القسم عارضٌ سريع الزوال، لظاهر قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).
والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو الْمشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ)، على بعض الأقوال.
وهذا القسم داخل في قوله : (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ).
وزعم بعض الأصوليين وبعض الصوفية أنه لا يقع منه النسيان في شيء أصلاً، وإنما يقع منه صورته، ليَسُنَّ. قال القاضي عياضٌ: وهذا تناقض مردودٌ، ولم يقل بِهذا أحد مِمَّن يقتدى به، إلا الأستاذ أبو الْمظفر الإسفراييني من شيوخنـا، فإنه مال إليه ورجحـه، وهو ضعيفٌ متناقض.
---------------------------------
الخلاصة
1.أن القرآن الكريم لقي من المسلمين الأوائل ما يليق به من العناية بالحفظ والنقل، فكان ذلك مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
2.أنه قد قام بحفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَن لا يُحصَى كثرةً، فتجاوز عدد الحفاظ بذلك عدد التواتر، الذي يثبت به نقل القرآن ثبوتًا قطعيًّا.
3.أن جمع القرآن بإطلاقاته الثلاثة، وهي الحفظ في الصدور، وترتيب الآيات والسور، والتدوين بالكتابة قد حصل في عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
4.أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أولى القرآن الكريم بعناية عظيمة، وأمر بتدوينه، وأن القرآن كتب كله بين يديه صلى الله عليه وسلم.
5.أن ما أثبت في العرضة الأخيرة للقرآن على جبريل هو القرآن المنَزل، وأنه قد نسخ فيها بعض القرآن
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:37
ثالثاً :
جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم
وفي السنة الحادية عشرة من الهجرة وقعت معركة اليمامة المشهورة بين المرتدين بقيادة مسيلمة الكذاب، والمسلمين بقيادة خالد بن الوليد، واستحرَّ القتل في المسلمين، واستشهد منهم سبعون من القرَّاء؛ فارتاع عمر بن الخطاب، وخاف ذهاب القرآن بذهاب هؤلاء القرَّاء، ففزع إلى أبي بكر الصديق، وأشار عليه بجمع القرآن، فخاف أبوبكر أن يضع نفسه في منـزلة من يزيد احتياطه للدين على احتياط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال مترددًا حتى شرح الله صدره، واطمأن إلى أن عمله مستمد من تشريع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن. وكان زيد بن ثابت مداومًا على كتابة الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن، وكان ذا عقل راجح وعدالة ورويَّة، مشهودًا له بأنه أكثر الصحابة إتقانًا لحفظ القرآن، ووعاء لحروفه، وأداء لقراءته، وضبطًا لإعرابه ولغاته؛ فوقع عليه الاختيار رغم وجود من هو أكبر منه سنًا، وأقدم إسلامًا، وأكثر فضلا. قال الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه ، وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، قال: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقال: أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقال: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قال: أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ فَقال: عُمَرُ هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ. فَقال أَبُو بَكْر:ٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ؟ فَقال أَبُو بَكْر:ٍ هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ. فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِه: } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ{ إِلَى آخِرِهِمَا. وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وكان زيد لا يكتب شيئًا حتى يشهد شاهدان على كتابته وسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرتّـبه على حسب العرضة الأخيرة التي شهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقيت هذه الصحف في رعاية أبي بكر، ثم في رعاية عمر، ثم عند أم المؤمنين حفصة، حتى أُحرقت بعد وفاتها رضي الله عنها. لماذا زيد بن ثابت الأنصاري ؟ بين أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسباب اختياره زيدَ بن ثابت في الحديث الذي أسلفناه، حيث قال له: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. وقد ورد أيضًا أن زيد بن ثابت كان قد حضر العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، كما مرَّ. أضف إلى ذلك أن زيد بن ثابت كان ممن جمع القرآن حفظًا في صدره في حياة رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَعَنْ قَتَادَة قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا زَيْدٍ. فتبين أن أبا بكر رضي الله عنه إنَّما اختار لِهذه المهمة الشاقة زيد بن ثابت للأسباب الآتية:
1أنه كان شابًّا، وفي ذلك خصال توافق غرض الصديق، حيث إن الشابَّ أقوى وأجلدُ على العمل الصعب من الشيخ، كما أن الشابَّ لا يكون شديد الاعتداد برأيه، فعند حصول الخلاف يسهل قبوله النصح والتوجيه.
2.أن زيد بن ثابت كان معروفًا بوفرة عقله، وهذا مِمَّا يؤهله لإتْمام هذه المهمة الجسيمة.
3.أنه كان غير متهم في دينه، فقد كان معروفًا بشدة الورع، والأمانة وكمال الخلق، والاستقامة في الدين.
4.أنه كان يلي كتابة الوحي لرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ويرى إملاء رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكان يشاهد من أحوال القرآن ما لا يشاهده غيره، وهذا يؤهله أكثر من غيره ليكتب القرآن، ويجمعه.
5.أنه كان حافظًا للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وكان حفظه في زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم على العرضة الأخيرة.
6.أنه فيما روي كان مِمَّن شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، كما مرَّ علينا. وقد كان زيد بن ثابت رضي الله عنه جديرًا بِهذه الثقة، ويدل على ذلك قوله لَمَّا أمره أبو بكر بجمع القرآن: فَوَاللهِ! لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قال ابن حجر: وإنَّما قال زيد بن ثابت ذلك لِما خَشِيَهُ من التقصير في إحصاء ما أُمِر بجمعه، لكن الله تعالى يسر له ذلك، كما قال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر) وشرع زيد بن ثابت يَجمع القرآن من الرقاع واللخاف والعظام والجلود وصدور الرجال، وأشرف عليه وعاونه في ذلك أبو بكر وعمر وكبار الصحابة. فقد شارك في العمل في هذا الجمع عدد من كبار الصحابة، منهم عمر بن الخطاب وأُبَيُّ بن كعب، وغيرهما. فعن عروة بن الزبير قال: لَمَّا استحرَّ القتل بالقراء يومئذٍ، فَرِق أبو بكرٍ على القرآن أن يضيعَ، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. وعن أبي العالية عن أُبَيِّ بن كعب أنَّهم جَمعوا القرآن في مصحفٍ في خلافة أبي بكرٍ، فكان رجالٌ يكتبون، ويُملي عليهم أُبَيُّ بن كعبٍ وبِهذه المشاركة أخذ هذا الجمع الصفة الإجْماعية، فقد اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم، وتعاونوا على إتْمامه على أكمل وجه. كيف كانت طريقة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في جمع القرآن ؟ بلغ اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بالْمحافظة على القرآن الغايةَ القصوى، فمع أنَّهم شاهدوا تلاوة القرآن من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، ومع أن القرآن كان بالفعل مكتوبًا على عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان مفرَّقًا، ومع أن تزوير ما ليس منه كان مأمونًا، ومع أن زيد بن ثابت (الذي قام بالجمع) كان هو وغيره من الصحابة يَحفظون القرآن -فقد اتَّبعُوا في جمع القرآن على عهد أبي بكرٍ رضي الله عنه منهجًا دقيقًا حريصًا، أعان على وقاية القرآن من كل ما لَحق النصوص الأخرى من مظنة الوضع والانتحال. ويُمكن تلخيص ذلك المنهج في النقاط الآتية:
1 - أن يأتي كلُّ من تلَقَّى شيئًا من القرآن من رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم به إلى زيد بن ثابت ومن معه. ويدل لذلك ما رواه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب قام في الناس فقال: " من كان تلقى من رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأتنا به" وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح و العُسُب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان.
2- أن لا يُقبل من أحدٍ شيءٌ حتى يشهد عليه شهيدان، أي أنه لم يكن يكتفي بِمجرد وجدان الشيء مكتوبًا حتى يشهد عليه شهيدان. ويدل على ذلك أثر عمر السابق، وكذلك قول أبي بكرٍ لعمر بن الخطاب ولزيد ابن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. وقد اختلف في المراد بالشهادة هنا: فقال السخاوي: المراد أنَّهما يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كُتِب بين يدي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنَّهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بِها القرآن. وقال ابن حجر: وكأن الْمراد بالشاهدين الحفظ والكتاب. ثم ذكر احتمال الوجهين الأولين. قال السيوطي: أو المراد أنَّهما يشهدان على أن ذلك مِمَّا عُرض على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عام وفاته. والذي يظهر -والله أعلم- أن المراد الشهادة على كتابته بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه مِمَّا عُرض على جبريل في العام الذي توفي فيه رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، إذ القرآن كان مَحفوظًا في صدور كثير من الصحابة رضي الله عنهم، فلو أرادوا الإشهاد على حفظه لوجدوا العشرات
. 3 - أن يكتب ما يؤتى به في الصحف. ويدلُّ عليه قول زيدٍ في حديث جمع القرآن السابق: وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. وما في موطَّأ ابن وهب عن ابن عمر قال: جمع أبو بكر القرآن في قراطيس. وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري قال: لَمّا أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر، وخاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل الناسُ بما كان معهم وعندهم، حتى جُمِع على عهد أبي بكر في الورق، فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في الصحف.
4 - أن لا يُقبل مِمَّا يُؤتى به إلا ما تحقق فيه الشروط الآتية:
أ- أن يكون مكتوبًا بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لا من مُجرد الحفظ، مع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند هذا الشرط. قال أبو شامة: وكان غرضهم ألا يُكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ.
ب- أن يكون مما ثبت عرضه على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عام وفاته، أي في العرضة الأخيرة. وذلك أن ما لم يثبت عرضه في العرضة الأخيرة لم تثبت قرآنيته، وقد مرَّ قريبًا احتمال كون الإشهاد على أن المكتوب كان مِمَّا عرض في العرضة الأخيرة. وعن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:41
5 -
أن تكتب الآيات في سورها على الترتيب والضبط اللذين تلقاهما المسلمون عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وقد التُزم في هذا الجمع كل الضوابط السابقة بدقة صارمة، حتى إنه روي أَنَّ عمر بن الخطاب أتى بآية الرجم، فلم تُقْبل منه؛ لأنه كان وحده. فقد أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن الليث بن سعد، قال: أوَّل من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيدٌ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع خزيْمة بن ثابت، فقال: اكتبوها؛ فإن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وإن عمر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها؛ لأنه كان وحده. كان لِجمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه منزلة عظيمة بين المسلمين، فلم يَحصل خلاف على شيء مِمَّا فيه، وامتاز بِمزايا عديدة، منها:
1.أنه جمع القرآن على أدقِّ وجوه البحث والتحري، وأسلم أصول التثبت العلمي، كما مرَّ بنا في منهج أبي بكر في جمع القرآن.
2.حصول إجماع الأمة على قبوله، ورضى جميع المسلمين به.
3.بلوغ ما جُمِع في هذا الجمع حدّ التواتر، إذ حضره وشهد عليه ما يزيد على عدد التواتر من الصحابة رضي الله عنهم.
4.أنه اقتصر في جمع القرآن على ما ثبت قرآنيته من الأحرف السبعة، بثبوت عرضه في العرضة الأخيرة، فكان شاملاً لما بقي من الأحرف السبعة، ولم يكن فيه شيء مِمَّا نُسِخَت تلاوته.
5.أنه كان مرتب الآيات دون السور. ولقد حظي هذا الجمع المبارك برضى المسلمين، وحصل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، ولقي منهم العناية الفائقة. فقد حفظت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر رضي الله عنه حتى وفاته، ثم انتقلت إلى عمر رضي الله عنه حتى تُوُفِّي، ثم كانت بعد ذلك عند ابنته حفصة زوج رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فطلبها منها عثمان بن عفان رضي الله عنه، فنسخ منها المصاحف إلى الأمصار ثم أرجعها إليها، فكانت الصحف المجموعة في عهد أبي بكر رضي الله عنه هي الأساس لنسخ المصاحف في زمن عثمان رضي الله عنه، وهذا مِمَّا يدل على مكانة هذا الجمع عند الصحابة رضي الله عنهم. قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. وعن علِيٍّ رضي الله عنه قال: رحمةُ اللهِ على أبي بكرٍ؛ كانَ أعظمَ الناسِ أجرًا في جمع المصاحفِ، وهو أوَّل من جمع بين اللَّوْحَيْنِ. قال ابن حجر: وإذا تأمَّل المنصف ما فعله أبو بكرٍ من ذلك جزم بأنه يعد في فضائله، ويُنوِّه بعظيم منقبته؛ لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: من سنَّ سنة حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بِها. ثم قال: فما جمع القرآن أحدٌ بعده إلا وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة.
--------------
الخلاصة
1.أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أول من أمر بجمع القرآن في مجلد واحد، وكان ذلك بإشارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقام بذلك الجمع زيد بن ثابت رضي الله عنه.
2.أن جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه حظي بإجماع الصحابة عليه، ولم يترك شيئًا مِمَّا كتب بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فكان جامعًا لِما ثبت في العرضة الأخيرة، دون خلاف من المسلمين.
3.أن الاعتراض الوارد على أبي بكر بأنه فعل ما لم يفعله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، مدفوع بأن أصل الكتابة مأمورٌ به، وأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إنَّما تركه لأسباب زالت بوفاته صلى الله عليه وسلم، فأصبح الجمع على هذه الكيفية من باب فعل المأمور به.
4.أن الشبهات التي أثيرت حول جمع أبي بكر للقرآن واهية مدفوعة بالبراهين النقلية والعقلية، وهي لا تستند إلى أدلة غير الوهم والتخرص، وخاصة ما زعمه الرافضة من الزيادة والنقص في القرآن الكريم
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:43
رابعاً :
جمع القرآن الكريم في عهد عثمـان بـن عفــان رضي الله عنهم (( المصحــف العثمــانــي))
اتسعت الفتوح، وانتشر الصحابة في البلاد، وأصبح أهل كل بلد يقرؤون بقراءة الصحابي الذي نـزل فيهم؛ ففي الشام بقراءة أُبي بن كعب، وفي الكوفة بقراءة عبدالله بن مسعود، وفي البصرة بقراءة أبي موسى الأشعري.
وكان مِن الصحابة الذين استقروا في البلاد المفتوحة مَن لم يشهد العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقف على ما نُسخ من أحرفٍ وقراءات في هذه العرضة، بينما وقف صحابة آخرون على ذلك، وكان كل صحابي يقرأ بما وقف عليه من القرآن، فتلقى الناس عنهم ذلك، فاختلفت قراءاتهم، وخطَّأ بعضُهم بعضا.
وفي فتح أذربيجان وأرمينية، في السنة الخامسة والعشرين من الهجرة اجتمع أهلُ الشام والعراق، فتذاكروا القرآن، واختلفوا فيه، حتى كادت الفتنة تقع بينهم، فكان حذيفة بن اليمان مشاركًا في هذا الفتح؛ فذعر ذعرًا شديدًا، وركب إلى عثمان في المدينة، ولم يدخل داره حتى أتى عثمان، فقال له: ((يا أمير المؤمنين أدرك الناس. قال: وما ذاك؟! قال: غزوت مَرْج أرمينية، فإذا أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبدالله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضًا)).
وكان عثمان قد وقع له مثل ذلك، حتى إنه خطب في الناس، وقال لهم: أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافًا، وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إمامًا.
وكتب عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها.
يقول زيد بن ثابت: فأمرني عثمان بن عفان أن أكتب مصحفًا، وقال: إني مُدْخل معك رجلا لبيبًا فصيحًا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ.
وفي رواية عن مصعب بن سعد: فقال عثمان: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعـرب -وفي رواية أفصح-؟ قالوا: سعيد بن العاص. قال: فَلْيُمْلِ سعيد، وليكتب زيد.
يقول زيد بن ثابت: فلما بلغنا: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت قال زيد: فقلت ((التابوه )) ، وقال سعيد: ((التابوت )) . فرفعناه إلى عثمان، فكتب ((التابوت )) ؛ لأنها من لغة قريش التي نـزل القرآن بلسانها.
فرغ زيد من كتابة المصحف، فعرضه عَرْضة فلم يجد فيه قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا )فلم يجدها عند المهاجرين، ولم يجدها عند الأنصار، فوجدها عند خزيمة بن ثابت. ثم عرضه عرضة أخرى، فلم يجد قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ). فاستعرض المهاجرين فلم يجدها عندهم، واستعرض الأنصار فلم يجدها عندهم، حتى وجدها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضًا، فأثبتها، ثم عرضه عرضة ثالثة فلم يجد فيه شيئًا، فعرض عثمان المصحف على صحف حفصة، فلم يختلفا في شيء، فقرّت نفسه رضي الله عنه.
وفي رواية لمحمد بن سيرين: أن عثمان جمع لكتابة المصحف اثني عشر رجلا من المهاجرين والأنصار، منهم زيد بن ثابت، وفي روايات متفرقة منهم: مالك بن أبي عامر (جدّ مالك بن أنس) وكثير بن أفلح، وأبي بن كعب، وأنس بن مالك، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام.
يقول ابن حجر: ((وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل للآفاق، فأضافوا إلى زيد من ذُكر، ثم استظهروا بأبي بن كعب في الإملاء)).
اختلفت الروايات في عدد المصاحف التي كتبها عثمان، فالمشهور أنها خمسة، وورد أنها أربعة، وورد أنها سبعة، بعث بها إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصـرة، والكوفـة، وأبقى واحدًا بالمدينة سُمي ((المصحف الإمام )). أمر عثمان بما سوى المصحف الذي كتبه والمصاحف التي استكتبها منه أن تحرق، أو تخرق (أي تدفن).
وهكذا كان الجمع الثاني للقرآن الكريم في عهد عثمان رضي الله عنه، أشرف عليه بنفسه، بمشاركة كبار الصحابة رضوان الله عليهم وموافقتهم وإجماعهم ، فجمع بهذا العمل الجليل كلمة المسلمين، وحسم ما ظهر بينهم من خلاف
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:45
كيف كانت طريقة عثمان في جمع القرآن ؟
شرع الصحابة الموكلون بجمع القرآن في كتابة المصحف الإمام، الذي نسخوا منه بعد ذلك المصاحف المرسلة إلى الأمصار، وكان الخليفة عثمان رضي الله عنه يتعاهدهم ويشرف عليهم، وكان الموجودون من الصحابة جميعًا يشاركون في هذا العمل.
ويُمكن أن يلخص منهج الجمع العثماني فيما يأتي:
1 - الاعتماد على جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويظهر هذا جليًّا في طلب عثمان رضي الله عنه الصحف التي جمع فيها أبو بكرٍ القرآن من حفصة -رضي الله عنها، وقد كانت هذه الصحف -كما مرَّ- مستندةً إلى الأصل المكتوب بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
وبذلك ينسد باب القالة، فلا يزعم زاعم أن في الصحف المكتوبة في زمن أبي بكر ما لم يُكتب في المصحف العثماني، أو أنه قد كتب في مصاحف عثمان ما لم يكن في صحف أبي بكر.
2 - أن يتعاهد لجنة الجمع ويشرف عليها خليفة المسلمين بنفسه: فعن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبـْـعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم.
3 - أن يأتي كلُّ مَن عنده شيءٌ من القرآن سمعه من الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِما عنده، وأن يشترك الجميع في علم ما جُمِع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحدٌ عنده شيء منه، ولا يرتاب أحدٌ فيما يودَع المصحف، ولا يُشَكُّ في أنه جمِع عن ملأٍ منهم.
ويدل على ذلك ما صحَّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنه قال: يا أيها الناسُ، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إلاَّ عن ملأٍ منَّا جميعًا، فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كُفْرًا. قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ، ولا يكون اختلافٌ. قلنا: فنعم ما رأيت.
وورد كذلك أن عثمان رضي الله عنه دعا الناس إلى أن يأتوا بِما عندهم من القرآن المكتوب بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يستوثق لذلك أشد الاستياق.
فعن مصعب بن سعد قال: قام عثمان رضي الله عنه فخطب الناس فقال: أيها الناس! عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة سنةً، وأنتم تَمترون في القرآن… فأَعْزِم على كل رجل منكم ما كان معه من القرآن شيءٌ لَمَا جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان، فدعاهم رجلاً رجلاً، فناشدهم: لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم. 4 - الاقتصار عند الاختلاف على لغة قريش.
كما جاء في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا.
والمقصود من الجمع على لغة واحدة: الجمع على القراءة المتواترة المعلوم عند الجميع ثبوتُها عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفت وجوهها، حتى لا تكون فرقةٌ ولا اختلاف، فإن ما يعلم الجميع أنه قراءة ثابتة عن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يختلفون فيها، ولا ينكر أحدٌ منهم القراءة بِها.
قال أبو شامة: يحتمل أن يكون قوله: نزل بلسان قريش، أي: ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم. فلعلَّ عثمان رضي الله عنه عندما جمع القرآن رأى الحرف الذي نزل القرآن أولاً بلسانه أولى الأحرف، فحمل الناس عليه عند الاختلاف.
وقد اختلف الصحابة في كلمة (التابوت) هل هي بالتاء أم بالهاء.
كما قال الزهري: واختلفوا يومئذٍ في (التابوت) و(التابوه)، فقال النفر القرشيون: (التابوت)، وقال زيدٌ: (التابوه)، فرُفِع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه (التابوت)، فإنه بلسان قريشٍ.
على أنه قد ورد أن الذي رأى أنَّها بالتاء هو زيدٌ، كما روى الطحاوي عن زيد ابن ثابت أنَّه لَمَّا بَلَغَ: (إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ)، قَالَ زَيْدٌ: فَقُلْت أَنَا: (التَّابُوتُ)، فَرَفَعْنَا ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ (التَّابُوتُ).
5 - أن يُمنع كتابة ما نُسخت تلاوته، وما لم يكن في العرضة الأخيرة، وما كانت روايته آحادًا، وما لم تُعلم قرآنيته، أو ما ليس بقرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة، شرحًا لمعنىً، أو بيانًا لناسخ أو منسوخٍ، أو نحو ذلك.
ومِمَّا يدل لذلك ما ورد عن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم (فيمن يكتب): هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.
6 - أن يشتمل الجمع على الأحرف التي نزل بِها القرآن، والتي ثبت عرضها في العرضة الأخيرة مع مراعاة ما يأتي:
أ- عند كتابة اللفظ الذي تواتر النطق به على أوجهٍ مختلفةٍ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، يبقيه الكَتَبَةُ خاليًا عن أية علامة تقصِر النطق به على وجه واحد؛ لتكون دلالة المكتوب على كلا اللفظين المنقولين المسموعين متساوية،فتكتب هذه الكلمات برسم واحدٍ في جميع المصاحف، محتمل لما فيها من الأوجه المتواترة، ومن أمثلة ذلك:
1 - قوله تعالى: (كَيْفَ نُنْشِزُهَا)، بالزاي المنقوطة، فقد قرأها أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (نُنْشِرُهَا )، بالراء المهملة. 2 - وقوله (هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) بالباء الموحدة من البلوى، فقد قرأ حمزة والكسائي وخلف: (هُنَالِكَ تَتْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ )، بالتاء المثناة من التلاوة، مكان الباء الموحدة. 3 - وقوله تعالى: (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ )، بفتح العين والميم، فقد قرأ حمزة والكسائي وخلف وشعبة: (فِي عُمُدٍ مُمَدَّدَةٍ )، بضم العين والميم.
ب- ما لا يحتمله الرسم الواحد، كالكلمات التي تضمنت قراءتين أو أكثر، ولم تنسخ في العرضة الأخيرة، ورسمُها على صورة واحدة لا يكون محتملاً لما فيها من أوجه القراء، فمثل هذه الكلمات ترسم في بعض المصاحف على صورة تدل على قراءة، وفي بعضها برسم آخر يدل على القراءة الأخرى.
ولم يكتب الصحابة تلك الكلمات برسمين أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية؛ لئلا يُتَوَهَّم أن الثاني تصحيحٌ للأول، وأن الأول خطأ، وكذلك لأن جعل إحدى القراءات في الأصل والقراءات الأخرى في الحاشية تحكُّمٌ، وترجيحٌ بلا مرجِّح؛ إذ إنَّهم تلقَّوْا جميع تلك الأوجه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وليست إحداها بأولى من غيرها.
ومن الأمثلة على ذلك:
1 - قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولدًا )، فقد قرأها عبد الله بن عامرٍ الشامي: (قالوا اتخذ الله ولدًا )بغير واو. وهي كذلك في مصاحف أهل الشام. 2 - قوله (وَوَصَّى بِها إِبْرَاهِيمُ )، فقد قرأها أبو جعفرٍ، ونافعٌ، وابن عامرٍ: (وَأَوْصَى بِها إِبْرَاهِيمُ ) من الإيصاء. وقد رسمت في مصاحف أهل المدينة والشام بإثبات ألف بين الواوين. قال أبو عبيد: وكذلك رأيتها في الإمام مصحف عثمان رضي الله عنه، ورسمت في بقية المصاحف بواوين قبل الصاد، من غير ألفٍ بينهما. 3 - وقوله تعالى: (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ )، فقد قرأها عبد الله بن كثير المكي: (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ )، بزيادة (مِنْ) قبل (تَحْتِهَا). وهي كذلك في المصحف المكي، وفي بقية المصاحف بحذفها. 4 - وقوله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ )، في قراءة أبي جعفر، ونافع، ورواية حفص عن عاصم بِهاء بعد الياء في (تَشْتَهِيهِ)، وقد قرأها بقية القراء: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ)، دون الهاء الأخيرة.
قال أبو عمرو الداني: في مصاحف أهل المدينة والشام ( تَشْتَهِيهِ ) بِهاءين، ورأيت بعض شيوخنا يقول: إن ذلك كذلك في مصاحف أهل الكوفة، وغلط.
وقال أبو عبيد: وبِهاءين رأيته في الإمام. وفي سائر المصاحف (تَشْتَهِي) بِهاء واحدة .
7 - بعد الفراغ من كتابة المصحف الإمام يراجعه زيد بن ثابت ، ثم يراجعه عثمان رضي الله عنه بنفسه.
عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ، قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِها، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ (ِمنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ )، فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ.
كانت هذه هي المراجعة الأولى لزيدٍ رضي الله عنه، ويظهر من الروايات أنه عرضه مرتين أخريين، فأظهرت الثانية الاختلاف في لفظ (التابوت)، ولم تكشف الثالثة عن شيء.
وفي هذا الأثر ما يدل على أن المعارضة بِما جمعه الصديق كانت بعد الانتهاء من كتابة المصحف الإمام، لِمزيد الاطمئنان، وفي هذا ما يدل على بقاء الأوجه الثابتة من القراءة بغير اختلافٍ بين الحفَّاظ والعلماء.
وقد نفَّذ الصحابة رضي الله عنهم هذه الضوابط أدقَّ تنفيذٍ، فكانوا ربَّما انتظروا الغائب الذي عنده الشيء من القرآن زمانًا، حتى يستثبتوا مِمَّا عنده، على الرغم من أن القائمين بالكتابة والإملاء كانوا من الحفاظ القراء.
عن مالك بن أبي عامر، قال: كنتُ فيمن أملى عليهم، فربَّما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقَّاها من رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكون غائبًا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجيء، أو يُرسَل إليه.
كان نسخ القرآن في المصاحف في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه تحقيقًا لوعد الله بحفظ كتابه العزيز، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )، فقد وحَّد هذا الجمع صف المسلمين وكلمتهم، وردَّ عنهم ما كان محدقًا بِهم من الفتنة العظيمة، واجتث بذور الشقاق من بينهم.
صلاح الياسري المديـހ الـޱـام
بلدي : النوع :
عدد الرسائل : 2757 النقاط : 12947الاوسمه : نسيه الشراسه فى الدم :
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:45
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:48
ومِمَّا سبق ذكره من خطة عمل الصحابة في جمع القرآن زمن عثمان يتبين لنا مزايا ذلك الجمع المبارك، ويمكن تلخيص بعضها فيما يأتي:
1.مشاركة جميع من شهد الجمع من الصحابة فيه، وإشراف الخليفة عليه بنفسه. 2.بلوغ من شهد هذا الجمع وأقرّه عدد التواتر. 3.الاقتصار على ما ثبت بالتواتر، دون ما كانت روايته آحادًا. 4.إهمال ما نسخت تلاوته، وما لم يستقرَّ في العرضة الأخيرة. 5.ترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن، بخلاف صحف أبي بكر t، فقد كانت مرتبة الآيات دون السور. 6.كتابة عدد من المصاحف يجمع وجوه القراءات المختلفة التي نزل بِها القرآن الكريم. 7.تجريد هذه المصاحف من كل ما ليس من القرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة من تفسير للفظ، أو بيان لناسخ أو منسوخ، أو نحو ذلك.
ولقد حظي الجمع العثماني برضى من شهده من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم والتابعين، وقطع الله به دابر الفتنة التي كادت تشتعل في بلاد المسلمين، إذ جمعهم رضي الله عنه على ما ثبتت قرآنيته، فأنتهى بذلك ما كان حاصلاً من الإختلاف بين المسلمين.
-----------------
الخلاصة
1.أن جمع القرآن في عهد عثمان كان لِما حدث بين المسلمين من بوادر الفتنة والاختلاف في تلاوة القرآن.
2.وأن عثمان رضي الله عنه، إنَّما نسخ ما جمعه أبو بكر رضي الله عنه في مصاحف وأرسل منها نسخًا إلى الأمصار، لتكون مرجعًا للناس عند الاختلاف.
3.أن جمع القرآن الكريم في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه قد حظي بإجماع الصحابة، حيث قد رجع من خالفه أول الأمر إلى رأيه.
4.أن رسم المصاحف العثمانية واجب الاتباع، ولا يجوز مخالفته، وقد أجمع القراء على عدم جواز مخالفته في مقطوع أو موصول، أو إثبات أو حذف، أو تاء تأنيث، وما شابه ذلك.
5.أن الشبهات التي أثيرت حول جمع عثمان القرآن شبه مردودة، وأغلبها لا يستند على دليل صحيح، وأن ما له شبه دليل منها مردود بِما ذكر في كل شبهة على حدة.
6.أن نزول القرآن على سبعة أحرف كان تيسيرًا على الأمة، وأن هذه الأحرف قد نسخ بعضها في العرضة الأخيرة، وبقي بعضها.
7.أن عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ نسخ ما جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في المصاحف وأرسلها إلى الأمصار -لم يترك شيئًا مِمَّا ثبت في العرضة الأخيرة من الأحرف السبعة، وأن ما يقال من أنه ترك ستة أحرف عن اتفاق الصحابة لا يصح استدلال من ذهب إليه عليه بقول عثمان رضي الله عنه: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. إذ لا دليل فيه على الأمر بترك شيء من الأحرف، وإنَّما قصارى ما فيه الاقتصار على لغة قريش عند الاختلاف، أما في عند الاتفاق، فقد كتبوا ما اتفقوا عليه، وإن كان بأكثر من حرف
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:50
خامساً :
تشكيل ونَقْط حروف المصحف الشريف
تشكيل كلمات المصحف الشريف
كُتبت مصاحف عثمان خالية من النقط والشكل؛ حتى تحتمل قراءتُها الأحرف السبعة التي نـزل بها القرآن الكريم، وعندما أرسلها إلى الأمصار رضي بها الجميع، ونسخوا على غرارها مصاحف كثيرة خالية من النقط والشكل. واستمروا على ذلك أكثر من أربعين سنة.
وخلال هذه الفترة توسعت الفتوح، ودخلت أممٌ كثيرة لا تتكلم العربية في الإسلام؛ فتفشت العجمة بين الناس، وكثر اللحن، حتى بين العرب أنفسهم؛ بسبب كثرة اختلاطهم ومصاهرتهم للعجم، ولما كان المصحف الشريف غير منقوط خشي ولاة أمر المسلمين عليه أن يتطرق له اللحن والتحريف.
وكان أول من التفت إلى نقط المصحف الشريف هو زياد بن أبيه؛ ولذلك قصة، وهي: أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد عندما كان واليًا على البصرة (45-53هـ) أن يبعث إليه ابنه عبيدالله، ولما دخل عليه وجده يلحن في كلامه، فكتب إلى زياد يلومه على وقوع ابنه في اللحن، فبعث زياد إلى أبي الأسود الدؤلي يقول له: ((إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت مِن ألسنة العرب، فلو وضعت شيئًا يُصلح به الناسُ كلامَهم، ويعربون به كتاب الله)). فأعتذر أبو الأسود فلجأ زياد إلى حيلة؛ بأن وضع في طريقه رجلا وقال له: إذا مرّ بك أبو الأسود فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمد اللحن فيه. فلما مرّ به قرأ قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ، بجرّ لام رسوله، فشق ذلك على أبي الأسود، وقال: ((عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله)). وقال لزياد: ((قد أجبتك إلى ما طلبت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن))، واختار رجلا من عبدالقيس، وقال له: ((خذ المصحف، وصِبغًا يخالف لون المداد، فإذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فانقط واحدة فوقه، وإذا كسرتها فانقط واحدة أسفله، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف (أي أمامه)، فإذا أتبعت شيئًا من هذه الحركات غنة (أي تنوينًا)، فانقط نقطتين )).
فأخذ أبو الأسود يقرأ المصحف بالتأني، والكاتب يضع النقط، واستمر على ذلك حتى أعرب المصحف كله، وكان كلما أتم الكاتب صحيفة، أعاد أبو الأسود نظره فيها.
وجاء تلاميذ أبي الأسود بعده، وتفننوا في شكل النقطة؛ فمنهم مَن جعلها مربعة، ومنهم من جعلها مدورة مطموسة الوسط، ومنهم من جعلها مدورة خالية الوسط. وكانوا لا يضعون شيئًا أمام الحرف الساكن، أما إذا كان منونًا فيضعون نقطتين فوقه، أو تحته، أو عن شماله؛ واحدة للدلالة على أن النون مدغمة أو مخفاة، وفي تطور لاحق وضعوا للسكون جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه، وجعلوا علامة الحرف المشدد كالقوس، ولألف الوصل جرة متصلة بها في أعلاها، إذا كان قبلها فتحة، وفي أسفلها إذا كان قبلها كسرة، وفي وسطها إذا كان قبلها ضمة هكــذا ، وذلك باللون الأحمر. وكان هذا النقط يُسمى شكلا أو ضبطًا؛ لأنه يدل على شكل الحرف وصورته، وما يعرض له من حركة، أو سكون، أو شد، أو مد، ونحو ذلك.
وكانت الآراء مختلفة في أول من وضع هذا النقط، إلا أن أكثر هذه الآراء يذهب إلى أن المخترع الأول لهذا النوع من النقط هو أبو الأسود الدؤلي.
كما كانت الآراء مختلفة بين جوازه والأخذ به، وكراهته والرغبة عنه؛ جوازه لما فيه من البيان والضبط والتقييد، وكراهته؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم عندما جمعوا القرآن، وكتبوا المصاحف جردوها من النقط والشكل، فلو كان مطلوبًا لما جردوها، يقول القلقشندي: ((وأما أهل التوقيع في زماننا فإنهم يرغبون عنه (أي النقط)؛ خشية الإظلام بالنقط والشكل، إلا ما فيه إلباس على ما مر، وأهل الدَّيْونة لا يرون بشيء من ذلك أصلا ويعدون ذلك من عيوب الكتابة، وإن دعت الحاجة إليه )).
نقط حروف المصحف الشريف
أما نقط الإعجام، فهو ما يدل على ذات الحرف، ويميز المتشابه منه؛ لمنع العجمة، أو اللبس. كحروف الباء والتاء والثاء والياء، والجيم والحاء والخاء، والراء والزاي، والسين والشين، والعين والغين، والفاء والقاف، ونحوها مما يتفق في الرسم ويختلف في النطق، فقد دعت الحاجة إليه عندما كثر الداخلون في الإسلام من الأعاجم، وكثر التصحيف في لغة العرب، وخيف على القرآن أن تمتد له يد العبث.
واختلفت الآراء في أول من أخذ بهذا النقط، وأرجحها في ذلك ما ذهب إلى أن أول من قام به هما: نصر بن عاصم ، ويحيى بن يَعْمَر ؛ وذلك عندما أمر الخليفة الأموي عبدُالملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق (75-95هـ) أن يضع علاجًا لمشكلة تفشي العجمة، وكثرة التصحيف، فاختار كلا من نصر بن عاصم، ويحيى بن يَعْمَر لهذه المهمة؛ لأنهما أعرف أهل عصرهما بعلوم العربية وأسرارها، وفنون القراءات وتوجيهها.
وبعد البحث والتروي، قررا إحياء نقط الإعجام ، وقررا الأخذ بالإهمال والإعجام، مثلا الدال والذال، تهمل الأولى وتعجم الثانية بنقطة واحدة فوقية، وكذلك الراء والزاي، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والعين والغين. أما السين والشين، فأهملت الأولى وأعجمت الثانية بثلاث نقط فوقية؛ لأنها ثلاث أسنان، فلو أعجمت الثانية واحدة لتوهم متوهم أن الحرف الذي تحت النقطة نون والباقي حرفان مثل الباء والتاء تسوهل في إعجامهما.
أما الباء والتاء والثاء والنون والياء، فأعجمت كلها، والجيم والحاء والخاء، أعجمت الجيم والخاء، وأهملت الحاء، أما الفاء والقاف، فإن القياس أن تهمل الأولى وتعجم الثانية، إلا أن المشارقة نقطوا الفاء بواحدة فوقية، والقاف باثنتين فوقيتين أيضًا، أما المغاربة فذهبوا إلى نقط الفاء بواحدة تحتية، والقاف بواحدة فوقية.. وهكذا كان نقط الإعجام في بقية الأحرف.
وقد أخذ نقط الإعجام في بدايته شكل التدوير، ثم تطور بعد ذلك وأخذ شكل المربع، وشكل المدور المطموس الوسط، كما استخدمت الجرة الصغيرة فوق الحرف وتحته.
وكتب هذا النوع من النقط بلون مداد المصحف؛ حتى لا يشتبه بنقط الإعراب، واستمر الوضع على ذلك حتى نهاية الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية سنة 132هـ، حيث تفنن الناس خلال هذه الفترة في اتخاذ الألوان في نقط مصاحفهم، ففي المدينة استخدموا السواد للحروف ونقط الإعجام، والحمرة للحركات والسكون والتشديد والتخفيف، والصفرة للهمزات، وفي الأندلس استخدموا أربعة ألوان: السواد للحروف، والحمرة لنقط الإعراب، والصفرة للهمزات، والخضرة لألِفات الوصل، أما في العراق فاستخدموا السواد لكتابة حروف المصحف ونُقط الإعجام، والحمرة لنقط الإعراب (الحركات والهمزات)، واستخدم في بعض المصاحف الخاصة الحمرة للرفع والخفض والنصب، والخضرة للهمزة المجردة، والصفرة للهمزة المشدَّدة.
فاستخدام السواد كان عند الجميع لحروف المصحف ونقط الإعجام، والألوان الأخرى لغيرهما.
امتلأت المصاحف بالألوان المتعددة ((التي أصبحت عبئًا على عقل القارئ، وصعوبة على قلم الكاتب ))، وكان النقط جميعه مدورًا سواء نقط الإعراب أو الإعجام، فوقع الناس في الخلط بين الحروف.
واتفقت الآراء على أن يجعل نقط الإعراب (الشكل) بمداد الكتابة نفسه تيسيرًا على الناس، فأخذ إمام اللغة: الخليل بن أحمد الفراهيدي على عاتقه القيام بهذا العمل؛ فجعل الفتحة ألفًا صغيرة مضطجعة فوق الحرف، والكسرة ياء صغيرة تحته، والضمة واوًا صغيرة فوقه. وإن كان الحرف منوّنًا كـرر الحرف ، وجعل ما فيه إدغام من السكون الشديد رأس شين بغير نقط (سـ *)، وما ليس فيه إدغام من السكون الخفيف رأس خاء بلا نقط (حـ* ) والهمزة رأس عين (عـ *)، وفوق ألف الوصل رأس صاد (صـ )، وللمد الواجب ميمًا صغيرة مع جزء من الدال (مد).
يقول الدالي: ((وبهذا وضع الخليل ثماني علامات: الفتحة، والضمة، والكسرة، والسكون، والشدة، والمدة، والصلة، والهمزة، وبهذه الطريقة أمكن أن يجمع بين الكتابة والإعجــام والشكل بلون واحد )
الماهر عضو ذهبى
بلدي : النوع :
عدد الرسائل : 1871 النقاط : 13787الاوسمه :
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:51
مساهمه كبيره وروعه وتستحق التثبيت بارك الله فيكى وجعله فى ميزان حسناتك تقبلى مرورى
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:56
سادساً : تجويد الخط
جاء في الفهرست: أنَّ أول مَن كتب المصاحف في الصدر الأول، ووصف بحسن الخط ((خالد بن أبي الهياج))، وكان كاتباً للوليد بن عبدالملك (86-89 هـ/705-708م)، كتب له المصاحف والأشعارَ والأخبار، وهو الذي كتب في قِبلة المسجد النبوي بالذهب من (والشمس وضحاها) إلى آخر القرآن، وكان عمر بن عبدالعزيز مِمن اطّلع على خطّه وأعجب به، وطلب منه أن يكتب له مصحفًا تفنّـن في خطه، فقلَّبه عمر واستحسنه إلا أنه استكثر ثمنه فرده عليه.
ثم جاء بعده ((مالك بن دينار))، وهو مولى لأسامة بن لؤي بن غالب ، ويكنّى بأبي يحيى، واشتهر بتجويد الخط، وكتب المصاحف مقابل أجر كان يتقاضاه. وممن اشتهر بتجويد الخط في العصر الأموي أيضًا ((قطبة المحرِّر)) وهو من كتَّاب الدولة، يقول عنه ابن النديم: ((استخرج الأقلام الأربعة، واشتق بعضها من بعض، وكان قطبة من أكتب الناس على الأرض بالعربية )). وإليه ينسب تحويل الخط العربي من الكوفي إلى الخط الذي هو عليه الآن.
أما في العصر العباسي، وفي خلافة أبي العباس السفاح (132-136 هـ*/ 749-754م) فقد انتهت جودة الخط إلى ((الضحاك بن عجلان )) يقول ابن النديم: ((فزاد على قطبة، فكان بعده أكتب الخلق )). وممن جوَّد الخطَ في عهدي المنصور (136-158 هـ / 754-775م) والمهدي (158- 169 هـ/775-785م) ((إسحاق بن حمَّاد )) الذي زاد في تجويده على ((الضحاك بن عجلان )).
وظل الخط العربي يرقى ويتنوع حتى وصل إلى عشرين نوعًا على رأس المائة الثالثة من الهجرة عندما انتهت رئاسة الخط إلى الوزير أبي علي محمد بن علي بن مقلة ، وأخيه أبي عبدالله الحسن بن علي. يقول ابن النديم: ((وهذان رجلان لم يُرَ مثلهما في الماضي إلى وقتنا هذا ، وعلى خط أبيهما مقلة كتبا.. وقد كتب في زمانهما جماعة، وبعدهما من أهلهما وأولادهما، فلم يقاربوهما، وإنما يندر للواحد منهما الحرف بعد الحرف، والكلمة بعد الكلمة، وإنما الكمال كان لأبي علي وأبي عبدالله.. ورأيت مصحفًا بخط جدهما مقلة )).
قام الوزير ابن مقلة بحصر الأنواع التي وصل إليها الخطُّ العربي في عصره إلى ستة أنواع هي: الثلث، والنسخ، والتوقيع، والريحان، والمحقق، والرقاع. وهو الذي أكمل ما بدأه قطبة المحرِّر من تحويل الخط الكوفي إلى الشكل الذي هو عليه الآن. وأول من قدَّر مقاييس وأبعاد النقط، وأحكم ضبطها وهندسها.
ومع نهاية القرن الرابع الهجري، وبداية القرن الخامس الهجري انتقلت رئاسة الخط العربي إلى أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي المعروف بابن البواب، أو بابن الستري، وكان حافظًا للقرآن، و كان يقال له: الناقل الأول؛ لأنه هذب وعظَّم وصحَّح خطوط ابن مقلة في النسخ والثلث اللذين قلبهما من الخط الكوفي، واخترع ابن البواب عدَّة أقلام، وبلغ في جودة الخط مبلغًا عظيمًا، لم يبلغه أحد مثله.
وفي القرن السابع الهجري انتهت رئاسة الخط إلى عدد من الخطاطين منهم: ياقوت بن عبدالله الموصلي أمين الدين الملكي، المتوفى سنة 618 هـ*، كاتب السلطان ملكشاه (465-485 هـ*/ 1072-1092م)، وقد أخذ الخط عن الشيخة المحدِّثة الكاتبة ((شهدة بنت أحمد الإبَري الدينوري))، المتوفاة ببغداد سنة 574 هـ*، وهي ممن أخذ الخط عن ابن البواب، وكان ياقوت الموصلي مولعًا بنسخ معجم " الصحاح "، للجوهري، وكتب منه نسخًا كثيرة، باع النسخة بمائة دينار.
ومنهم ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي، شهاب الدين، المتوفى سنة 626هـ* ، صاحب كتاب ((معجم البلدان))، وكتاب ((معجم الأدباء )). ومنهم ياقوت بن عبدالله الرومي المُستَعْصِمي، المتوفى ببغداد سنة 698 هـ، وهو من أشهر من جوَّد الخط في ذلك الزمن، قلَّد ابن مقلة، وابن البواب، وكان أديبًا شاعرًا خازنًا بدار الكتب المستنصرية. يقول عنه طاش كبري زاده: ((وهو الذي طبق الأرض شرقًا وغربًا اسمه، وسار ذكره مسير الأمطار في الأمصار، وأذعن لصنعته الكل، واعترفوا بالعجز عن مداناة رتبته فضلا عن الوصول إليها؛ لأنه سحر في الكتابة سحرًا لو رآه السامري لقال: إن هذا سحر حلال)).
وكان ياقوت المستعصمي يمثل نهاية الاحتكار العراقي للخط المجوَّد المنسوب، حيث أخذت المراكز الثقافية الأخرى في العالم الإسلامي تنافس بغداد في الاهتمام بالخط وتجويده. ففي مصر عُرف تجويد الخط منذ عصر الدولة الطولونية (254-292 هـ*/868-905م)، وفي العصر الفاطمي (358-567 هـ*/968-1171م) وصلت إلى مستوى المنافسة مع بغداد عاصمة العباسيين، واستمرت كذلك في عصر الأيوبيين (569-650 هـ*/ 1174-1252م) إلى أن جاء العصر المملوكي (648-932 هـ*/1220-1517م)، حيث بلغت مركز الصدارة، وظهرت فيها كتبٌ تناولت نظريات فن الخط وتعليمه، مثل: مقدمة ابن خلدون، وصبح الأعشى للقلقشندي. وفي شمال الشام تطور فنُّ الخط منذ أواخر القرن الخامس الهجري، وأجاد السوريون الشماليون خط النسخ، وخطَّ الطومار ومشتقاته. وفي تركيا، حيث قامت الدولة العثمانية (699-1341 هـ*/1299-1922م) بلغت العناية بتجويد الخط حدًّا بعيدًا، وأنشئت في الآستانة سنة 1326 هـ* أول مدرسة خاصة لتعليم الخط والنقش والتذهيب ، وطوَّروا ما أخذوه من مدارس سبقتهم في تجويد الخط؛ مثل: قلم الثلث والثلثين اللذين أخذوهما من المدرسة المصرية، وخط النسخ من السلاجقة، بل وزادوا على ذلك أقلامًا جديدة لأول مرة؛ مثل الرقعة، والديواني، وجلي الديواني، وتفردوا أيضًا بخط الطغراء، وهو في أصله توقيع سلطاني، وخط الإجازة وهو يجمع بين النسخ والثلث، والهمايوني، وهو خط مُوَلّد عن الديواني.
لم يتفوق الأتراك العثمانيون في الخط فقط، بل وفي تذهيب المصاحف وزخرفتها. ولم يزل الأتراك ممسكين بزمام التفوق في تطور الخط العربي حتى سنة 1342 هـ* عندما استبدلوا بالحرف العربي الحرفَ اللاتيني، حيث انتقل قياد التفوق الخطي إلى مصر مرة أخرى. فقد استقدم الملك فؤاد (1335-1355 هـ* / 1917-1936م) في سنة 1921م أشهر الخطاطين في الآستانة، وهو الشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعي ، فكتب له مصحفًا في ستة شهور، وذهّبه وزخرفه في ثمانية شهور. وفي منتصف شهر أكتوبر سنة 1922م فُتحت مدرسةٌ لتعليم الخطوط العربية، وكان في مقدمة أساتذتها الشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعي، وقد تخرجت أول دفعة في هذه المدرسة في يونيه سنة 1925م، وبعد فترة ألحق بها قسم في فن الزخرفة والتذهيب.
استقطبت مصر عددًا من الخطاطين الأتراك منهم: عبدالله بك الزهدي (خطاط المسجد النبوي، المتوفى بمصر سنة 1296 هـ)، ومحمد عبدالعزيز الرفاعي، وأحمد كامل، تخرج على أيديهم عدد من الخطاطين المصريين، وغيرهم من مختلف البلاد الإسلامية. وفي إيران لم تكن العناية بالخط العربي، وكتابة المصاحف أقل منها في تركيا، ونبغ الإيرانيون في مجال التذهيب، حتى تفوقوا على الأتراك في هذا الفن، كما عرفوا خطوطًا خاصة بهم منها: خط الشكسته، وهو أقدم خط عرفه الفرس، وخط التعليق، وهو خط فارسي ظهر في أواخر القرن السابع الهجري، وخط النسخ تعليق الذي يجمع بين خطي النسخ والتعليق، الذي ظهر في القرن التاسع الهجري.
وفي الوقت الذي أخذ فيه الأتراك عن الفرس خط التعليق وبرعوا فيه، فإن الفرس لم ينجحوا في إجادة الخط الديواني الذي أخذوه من الأتراك.أما شمال إفريقية فقد انتقل الخط إليها عن طريق المدينة، ثم الشام ، فعُرف الخط المغربي ، وانتشر في شمال إفريقية ووسطها وغربها وفي الأندلس. ومن الخطوط التي ظهرت في هذا الجزء من العالم الإسلامي خط القيروان الذي اتخذ الخط الكوفي أساسًا له، وخط المهدية، وخط الأندلس الذي احتل المكانة الأولى في كل شمال إفريقية في أواخر عهد الموحدين (524-668 هـ*/1130-1269م)، ثم ظهر الخط الفاسي، ثم ظهر الخط السوداني الذي عرف اعتبارًا من القرن السابع الهجري.وفي الجناح الشرقي من البلاد الإسلامية كان الغزنويون، والسلاجقة العظام لا يقلون اهتمامًا بالخط عن نظرائهم في البلاد الإسلامية الأخرى، ومثلهم في ذلك الإيلخانيون، والتيموريون، والجلائرون في القرنين السابع والثامن الهجريين.
موضوع: رد: تاريخ القرآن الكريم ... من النزول إلى طباعة المصحف في العصر الحديث الثلاثاء 27 مايو - 14:57
سابعاً
الطبعات المبكرة للمصحف الشريف
في أوروبا: تحدث الدكتور يحيى محمود جنيد عن طبعات ثلاث للمصحف الشريف في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، هي: طبعة البندقية عام 1537م أو 1538م، وطبعة هامبورج عام 1694م، وطبعة بتافيا عام 1698م.
وكانت الطبعة الأولى يلفها الغموض في تحديد تاريخها، ومكانها والجهة المشرفة عليها ومصيرها، فقيل في تاريخ طبعها: إنه كان في عام 1499م، وقيل: عام 1508م، وقيل: عام 1518م، وقيل:عام 1530م، وقيل: عام 1538م، أي أن هذه النسخة طبعت في الفترة ما بين 1499م و 1538م، دون الاتفاق على تاريخ محدَّد.
أما مكان الطبع فاختلف فيه أيضُا: فقيل: في البندقية. وقيل: في روما. وكذلك المشرف على طبعه قيل: باغنين، وقيل: بافاني، وقيل: باجانيني، ورغم ما يتردد من شك حول اكتشاف نسخة من هذه الطبعة في مكتبة الدير الفرنسسكاني القديس ميخائيل بالبندقية على يد أنجيلا نيوفو Angela Novo ، إلا أن هناك اتفاقًا على أن هذه الطبعة أتلفت بأمر من البابا، وإذا كان هناك من الباحثين من يرجع سبب إتلافها إلى رداءة طباعتها، وعدم تقيدها بالرسم الصحيح للمصحف، حسب ما اتفق عليه علماء المسلمين، مما جعل المسلمين يحجمون عن اقتنائها، إلا أن تدخل البابا وأمره بإتلافها يوحي بأن هناك دافعًا دينيًا أيضًا وراء إتلاف هذه الطبعة.
أما طبعة هامبورج Hamburgh في عام 1125 هـ (1694م)، فقد قام بها مستشرق ألمـــاني ينتمي إلى الطائفـــة البروتستـنتية، هو إبــراهام هنكلمان Ebrahami Hincklmani ، وقد حدَّد أن هدفه من هذه الطبعة ليس نشر الإسلام بين البروتستانت، وإنما التعرف على العربية والإسلام.
استغرق نص القرآن في هذه الطبعة خمسمائة وستين صفحة، كل صفحة تتكون من سبعة عشر إلى تسعة عشر سطرًا، وطبعت بحروف مقطعة، وبحبر أسود ثخين، على ورق كاغد أوربي، يعود إلى القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، وامتلأت بأخطاء كثيرة، بعضها ناتج عن تبديل حرف مكان حرف، وبعضها بسبب سقوط حرف من كلمة غيَّر المعنى المراد منها، وأخطاء أخرى تتعلق بأسماء السور، ويبدو أن عدم إتقان القائم على الطبعة للعربية، إضافة إلى محاولة تشويه النص القرآني الكريم وراء هذه الأخطاء.
ويذكر الدكتور يحيى: أن بعض المكتبات في العالم تضم نسخًا من هذه الطبعة، منها نسخة في دار الكتب المصرية برقم 176 مصاحف، ونسخة في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض.
طبعة بتافيا: صدرت هذه الطبعة من مطبعة السمناريين عام 1698م، وهي على قسمين: القسم الأول يضم نص القرآن الكريم، وترجمته، وتعليقات، وقد قام بإعداد هذا القسم الراهب الإيطالي لود فيكو مراشي Ludvico marracei Luceri، وتمتاز هذه الطبعة بتطور حروفها قياسًا بالطبعتين السابقتين.
وفي روسيا طبع المصحف الشريف في ((سانت بترسبورغ )) عام 1787م، وأشرف على هذه الطبعة مولاي عثمان، وفي عام 1848م ظهرت طبعة أخرى في ((قازان )) أشرف عليها محمد شاكر مرتضى أوغلي، وتقع في 466 صفحة، بمقاس 351×189مم، التزم فيها بالرسم العثماني، ولم يلتزم بذكر أرقام الآيات، وكتبت علامات الوقف فوق السطور، وقد ألحق بهذه الطبعة قائمة بما فيها من الأخطاء وبيان الصواب فيها.
وفي عام 1834م ظهرت طبعة خاصة للمصحف الشريف في مدينة ((ليبزيغ )) أشرف عليها ((فلوجل )) Flügel، ورغم اهتمام الأوربيين بها، وإقبالهم عليها، إلا أنها لم تحظ بعناية المسلمين ؛ لمخالفتها قواعد الرسم العثماني الصحيح. وفي إيران طبع المصحف طبعتين حجريتين في كل من طهران عام 1244هـ (1828م)، وتبريز عام 1248هـ (1833م). كما ظهرت طبعات أخرى في الهند وفي الآستانه اعتبارًا من عام 1887م.
إلا أن الملاحظ على جميع تلك الطبعات عدم التزامها بقواعد الرسم العثماني، الذي حظي بإجماع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرت على قواعد الرسم الإملائي الحديث إلا في نـزرٍ يسير من الكلمات كتبت بالرسم العثماني. واستمر الوضع على ذلك حتى عام 1308هـ (1890م) عندما قامت المطبعة البهية بالقاهرة، لصاحبها ((محمد أبو زيد )) بطبع المصحف الذي كتبه الشيخ المحقق ."رضوان بن محمد" الشهير بالمخللاتي ، والتزم فيه بخصائص الرسم العثماني، واعتنى بأماكن الوقوف مميزًا كل وقف بعلامة دالة عليه، التاء للوقف التام، والكاف للكافي، والحاء للحسن، والصاد للصالح، والجيم للجائز، والميم للمفهوم، كما قدّم له بمقدمة ذكر فيها أنه حرر رسمه وضبطه على ما في كتاب "المقنع " للإمام الداني ، وكتاب "التنـزيل " لأبي داود ، ولخص فيها تاريخ كتابة القرآن في العهد النبوي، وجمْعه في عهدَي أبي بكر وعثمان -رضي الله عنهما-، كما لخص فيها مباحث الرسم والضبـط...
عُرف هذا المصحف بمصحف المخللاتي، وكان المقدم على غيره من المصاحف، إلا أن رداءة ورقه، وسوء طباعته الحجرية، دفع مشيخة الأزهر إلى تكوين لجنة تضم: الشيخ محمد علي خلف الحسيني، الشهير بالحداد، والأساتذة: حفني ناصف، ومصطفى عناني، وأحمد الإسكندري؛ للنظر فيه، وفي ما ظهر من هنات في رسمه وضبطه، فكُتب مصحف بخط الشيخ محمد علي خلف الحسيني، على قواعد الرسم العثماني، وضُبط على ما يوافق رواية حفص عن عاصم، على حسب ما ورد في كتاب ((الطراز على ضبط الخراز)) للتَّـنَسي ، مع إبدال علامات الأندلسيين والمغاربة، بعلامات الخليل بن أحمد وتلاميذه من المشارقة، وظهرت الطبعة الأولى منه عام 1342هـ (1923م)، فتلقاها العالم الإسلامي بالرضا والقبول.
وبعد نفاذ هذه الطبعة كوِّنت لجنة بإشراف شيخ الأزهر، وعضوية عدد من علمائه: الشيخ عبدالفتاح القاضي، والشيخ محمد علي النجار، والشيخ علي محمد الضبّاع، والشيخ عبدالحليم بسيوني، راجعت المصحف على أمهات كتب القراءات والرسم والضبط والتفسير وعلوم القرآن، وصححت ما في الطبعة الأولى من هنات في الرسم والضبط، وطبع طبعة ثانية مدققة ومحققة.
ثم توالت طبعات المصحف الشريف في مدن مختلفة من العالم الإسلامي مع تطور آلات الطباعة وانتشارها، بما فيها المغرب العربي، الذي لم يتأخر كثيرًا في طباعة المصحف الشريف عن المشرق، وإن لم يُعرف على وجه الدقة تاريخ بدء الطباعة فيها، إلا أنها التزمت في علامات الضبط بما جاء عند الخراز.